الأربعاء، 5 يناير 2011

!أبي كنّاس



لم أرً أبي يوماً بزيه الأخضر ممسكاً مكنسة، ولم ألمحه في الشارع دافعاً حاوية القمامة، متتبعاً درب النفايات.
لكني كنتُ أسمعها، تتبعها ضحكة مجلجلة تعقب صرخة أو احتجاجاً جامحاً مني،
يصعقني بها هكذا "أبوك كنّاااااااااااس"!
-"بابا مو كنّاااااس!"
- "إلا أبوك كنّاس، والله أبوك كنّاس.. ههههههههه"
كنت في كل مرة أعرض عنه منسحبة، داكة الأرض بقدمي الصغيرتين الغاضبتين.
كان جدي عم والدي، كنتُ أناديه عمي، وكان الموقر في بيت العائلة لأسباب كثيرة. هناك في متكئه كان يشاكسني، دوماً بإزاره المقلم، دوماً بابتسامة عريضة.
أما أبي "الكناس"، فكان لا يظهر أمامي بملابس عامل النظافة أبداً،
نظيف دائما ويذهب إلى الجامعة لسبب ما غير كنس ممراتها كما كان يبدولي! كنتُ أقول له أحيانا، "بابا؟ العم أحمد يقول بأنك كنّاس!"، فيبتسم ولا يرد، وأغرق أنا في غصتي فيما أتساءل، متى تراه يذهب لأداء تلك المهمة في غفلة مني.
كنت أرقبه في غفلة منه متصيدة اللحظات التي قد يمارس فيها مهنته الأخرى تلك عن غيرما قصد.. ذات مرة رأيته يمسك مكنسة كهربائية صغيرة جداً ويكنس فيها زاوية ما، كم مرة تلتقطه عيناي ماسحاً الغبار عن سطح ما، أو منحنيا ليلتقط منديلا من على الارض. كان لايبدو عليه التذمر أو الخجل، كان يبدو طبيعيا جداً في وضع كهذا. "لابد أن تكون تلك مهنته السرية"، حدثتُ نفسي!
كان آخر مشهد أتخيله كل ليلة قبل الخلود إلى النوم هو منظر والدي وهو يكنسً شوارع المدينة بثياب رثة ووجه مكفهر ومتسخ، وهناك في ركنٍ من صدري كانت تتكوم غصة لم أعرفها من قبل.
آخر مرة رأيت فيها عمي غلبني البكاء
يومها ابتسم بحنان وقال،
- "تعالي إلى هنا،
أجلسني على حجره ومسح على شعري قائلا:
- أليس أبوك يأكل؟
قلت، بلى،
-ألا يشرب، ألا يمشي، ألا يتحدث، ويضحك، ويفعل مايفعلهُ الآخرون ؟

قلت (بصوتي المتهدج): بلى.. بلى.. بلى



رفع صوته بفرحٍ مفاجئ:         إذَن فـ أبوك (كالناااااس)!



هناك 5 تعليقات:

صفاء الدغيشي يقول...

أولئك الأجداد المشاغبون جداً
أولئك الممتدين في العمر
هم الضحكة الجميلة
هم سيناريو لا ينحسر عن قصة الذاكرة


ربي يحميكم

Gardi يقول...

صفاء،

صدقتِ يا صديقتي.
"هم سيناريو لا ينحسر عن قصة الذاكرة"

يرحلُ بعضهم باكراً جداً
وصوت ضحكاتهم لم تزل ترن على الجدران،
تتردد بين الأحياء
وتسكننا كقصة حزينة.

لقلبكِ ياصفاء (f)

غير معرف يقول...

أتيت هنا كالنسمة تزاور بقعة وترحل عنها سريعًا

قصة جميلة ، كُنا نُشاغب الأطفال بها

حتى يتباكوا تمامًا

ثم نبدأ نضحك

لديك قلم ، جذبني

إنما البُعد كل البعد عن الديانات لكُتَّابنا ذلك أسلم ، وأسلم
ولا نمسّ عقيدتنا بسوء من أجل قلمنا

لك الود

Gardi يقول...

مرحبا بك


"إنما البُعد كل البعد عن الديانات لكُتَّابنا ذلك أسلم ، وأسلم
ولا نمسّ عقيدتنا بسوء من أجل قلمنا"

ليس من الواضح ماترمي إليه.

شكراً لك على أي حال ومرحبا بك مرة أخرى.

Unknown يقول...

هههههههههههههه
أضحكتني من كل قلبي

و ذكرتني بموقف مشابه

دمت بود