الاثنين، 6 فبراير 2012

نوستالجيا الضوء






البيوت القديمة، الذكريات، رائحة فحم التنور، دعوات الأمهات الطيبة على نواصي المساء، النوافذ المضاءة بحكايا الجدات، وأزيز صراصير الليل المضيئة،
تلك الألفة الحزينة، الألفة المُبكية،  
تلك اللهفة لما يلي الليل، وما يتبع النهار، ومايزيد الحياة حياة ويُشبعُ التفاصيل القديمة بطيوف ألوانٍ يعرفها القلب جيداً ..

نسترق النظر للنوافذ، الوجوه، التجاعيد العميقة، الطرقات الضيقة، لذلك الأثر البعيد في صوت جدةٍ بعيدة كنا نعبث بمذياعها، نذكر الإطار السميك لعويناتها أكثر من ملامح وجهها، ورداء القطن الأبيض المطرز تحت فساتينها..  


نذكرُ الأصوات الجماعية لرفقة النهار حين تداعب أصواتهم وحصاهم الصغيرة زجاج النوافذ الصديقة... ووقع دقات الأرجل العارية على تراب الكثيب الذي يتخده الصِبيةُ ملعباً..

نذكرُ نداءات الحواتين في الصباحات، وعربات البطاطا والمثلجات، بائعي الذرة المشوية وطائراتنا الورقية الملونة إذ تتبع سربنا الجميل الذي يداعب أديم الأرض الأرحب فيما تتعلق الأعين بزرقة السماء وسرب طيور ملون يوزع الفرح على أفواه الصغار المندهشة!



دفعة واحدة تنهال الذكريات، فتسحق أسوارنا وتلك العزلة المنيعة، ذلك التمدّن المعلّب، والأنفة المعقدة..
دفعة واحدة نتسلل من كوّة في زاوية خفية من القلب متوشحين شيئا من حنين مشبوه نتناوله بقداسة من أيدي رفاقٍ خفيين لانعرفهم.


مانحن إن لم نتذكر رائحة الطريق غير المعبّدة وتراب الأزّقة وصرير الأراجيح الخشبية والأبواب البحرية وعرق الأسماك المسافر من الساحل عبر حارات المدينة!
ما أنا إن لم أتذكر وقع عصى جدي على العتبات، منديل جدتي، وأغنيات رددتها الخالات يوم كانت المدينة تشبه صندوق ألعابٍ صغير يصدر الدهشة.. 


نحنُ نذكرُ كل شيئ، نذكرهُ تماماً، ونخبئ في ركنٍ قصيٍ منا تلك الفتنة المغوية وذلك الجمال العصيّ على التكرار،
لامناص من النسيان فالذكرى موتٌ آخر،

وهذه الذاكرة المرهقة المثقلة ستنهارُ كمبنى مهترئ،
ستنهمرُ كغيمة عند شباك مطعمٍ أرمني، سأجلسُ قبالته على شرفة شتوية .. ستتسمر عيناي على قضبانه، على ستائر الحرير المطرز، الحائط الحجري، والإطار العتيق الذي سيحيط بصورة جدّي السابع عشر..


هذا الحائط الحجري كان يضعُ لبناته بناءٌ لم يفكر قط كم سيصلح هذا الجدار من عطب ذاكرةٍ لعابر، وكم سيفسد سيل الذكريات الملّون هذا إسمنت المدينة الرمادي!

هذه الذاكرة المثقلة، هذا الحَمل الطويلُ الطويل.. كم بهم من جمال،
وكيف حين لاندشن وحدتنا بهم، لا نتفتح، لا نزهر، لا نثمر؟ لا نضيء؟  كيف؟ كيف؟


فقط لو أننا نسترق الذكريات أو نسرقها، 
فقط لو تبدت لنا في المرايا ملامح أطفال يشبهوننا،،

فقط لو عادت تلك البيوت القديمة، النوافذ، الحكايات، ورائحة الصبح المتسللة من خشب النافذة العتيق، وصوت أغاني المذياع ترافق قرقعة أواني الجدات في المطابخ الحجريّة، 

هل كان كل شيء حينها سيكون على مايرام؟!