الأحد، 20 أبريل 2014

1984 - كوريا الشمالية وتحقق نبوءة جورج أورويل!



بدأت فكرة هذه التدوينة من رغبتي في التغريد في سلسلة قصيرة جداً عن تحفة جورج أورويل الشهيرة "ألف وتسعمائة و أربعة وثمانون"، ومَلَكة أورويل السياسية ونبوءته المتحققة التي لم تظهر فقط في هذه الرواية بل أيضاً في سابقتها "مزرعة الحيوان".

بعد قراءة الرواية لم أنفك عن عقد مقارنات عدة بين أوقيانيا الأخ الأكبر كما ظهرت في ١٩٨٤، وكوريا الشمالية العصر الحديث. كانت دهشتي كبيرة عندما بحثت قليلاً في قوقل واتضح لي أنني لستُ الأولى. ربما كان أول وأبرز من تناول قضية التشابه المرعبة بين رواية أورويل وواقع كوريا الشمالية هما الكاتبان البريطانيان، بيتر وكريستوفر هيتشنز.


يجدر بالذكر أن أورويل كتب روايته الشهيرة ١٩٨٤ في العام ١٩٤٨، في تجسيد تصوري دراماتيكي لمدى القباحة الذي قد تصل إليه الدولة الشمولية. الأمر الذي انقلبَ إلى مايشبه النبوءة لحال بعض الدول، وبالأخص وتحديداً كوريا الشمالية، حيث تطابق الرواية الواقع بصورة مفزعة ومثيرة للريبة!

تم إرساء قواعد الدولة الشمال كورية وإعلانها رسمياً في العام ١٩٤٨، وهي السنة التي كتبَ فيها أيضاً أورويل روايته الشهيرة!
هنا يتساءل كريستوفر هيتشنز ساخراً، هل من المعقول أن أحدهم كان قد سرب نسخة مترجمة من الرواية للقائد الكوري قبل نشرها وتم اعتماد فكرتها كمسودة خطة لنظام الدولة منذ ذلك الحين؟ الأمر بالفعل قد يبدو كذلك!

تتمحور ١٩٨٤ حول شخصية القائد "الأخ الأكبر"، حيث تسيطر هذه الشخصية على الناس والبلدة وتظهر في صور مؤطرة، وبوسترات تُعلَّق في كل مكان تحمل وجه الأخ الأكبر وعبارة "الأخ الأكبر يراقبك!". كما توجد شاشات في كل منزل قد يطل عليك منها وجه الأخ الأكبر في أي لحظة مخاطباً الشعب بأمور عامة أو خاصة.

في رواية أورويل/النبوءة، تختفي المشاعر والأحاسيس ويظهر الناس وكأنهم أجساد بائسة تتحرك وفق خطة معينة وهدف معين، وهو إرضاء الأخ الأكبر! كما أن الحب محرم، والزواج والإنجاب أمران مسيسان تماماً، أي أنك تنجب بهدف خدمة الأخ الأكبر والحزب. مشاعر الأفراد في ١٩٨٤ يتم توجيهها كليّةً لصالح الغضب العارم والمتفلت على عدو أوقيانيا والأخ الأكبر -يوراسيا، الأمر الذي تفعله كوريا الشمالية حرفياً مع عدوها الأكبر والمُعلن "أمريكا".

من الجدير بالاهتمام أيضاً غياب الدين في "١٩٨٤"، حيث لا يؤمن الناس سوى بالأخ الأكبر، وكأن أورويل أراد أن يخلق حالة من إحلال الدولة مكان الدين والوزارة مكان الكنيسة، حيث يمارس أفراد الحزب الخارجي شعائر الولاء والعبودية. أما الكنائس القديمة في لندن التي خلقها أورويل فتظهر في القصة كخرائب أو متاحف لصالح الدولة.


كما أننا في مونولوجات الشخصية الرئيسية  في الرواية، "وينستون" لا نرى أي ظهور لأي صراع داخلي حول الرب. بل إن كل صراعات هذه الشخصية تتمحور حول شخص الأخ الأكبر وكيفية تقنين هذه الأفكار والسيطرة عليها ومحاولة التحايل على عين الأخ الأكبر المتربصة كي لا يوقع وينستون نفسه في المشاكل.

 بالمقابل، في كوريا الشمالية، يختلف الأمر قليلاً، وبالرغم من كونها دولة "لادينية" رسمياً، إلا أن فكرة الدولة ذاتها تقوم على مفهوم ديني بحت، وهو غريب ومألوف في الوقت نفسه ويذكّر كثيراً بفكرة الثالوث في المسيحية، حيث يشغل (الراحل) القائد\المؤسس\الأب والجد كيم إيل سونق منصب الرئيس الأبدي للدولة (كآلهة)، ثم هناك (الراحل أيضاً) القائد\الابن والأب كيم جونق إيل، وأخيراً القائد\الابن\الحفيد كيم جنق أُون. وجميعهم يشار إليهم بـ "القائد العظيم" أو "القائد العزيز"، ويحملون مسميات مناصبهم بصورة أبدية حتى بعد وفاتهم! لكن في كلتا الحالتين، المتخيلة والواقعية، فإن التداخل بين دور الرب\الإله ودور الأخ الأكبر أو القائد ليس بالأمر الخفي، إذ يتبنى القائد صفات ربّانية بالكامل ويفترض على الشعب الإيمان الكامل بهذه القدرات اللابشرية.

في غياب الدين بصورة كبيرة عن شمال كوريا، حيث يُعتقد أن اعتناق الأديان فيه تحدي لشخص "القائد العزيز"، يحتفظ العامة أو هم مرغمون على الاحتفاظ بتماثيل للقائد، وفي حال حصول حادث أو حريق، يتوجب عليهم إنقاذ شخص القائد المتجسد في التماثيل أو الصور قبل أي شخص آخر! يذكر الأمر بقصة لتلميذة مدرسة قضت نحبها غرقاً في محاولة لانقاذ صور للقائد العظيم سقطت في النهر!

فيما بعد عندما ينكشف أمر خيانة وينستون في ١٩٨٤ أخيراً ليفاجأ بالأخ الأكبر يخاطبه من على شاشة مخفية في مخبأه مع حبيبته جوليا التي تنتمي لذات الحزب، سيلاقي الإثنان أشد صنوف العذاب في سجون النظام بما لايكفي وصفه هنا. في كوريا الشمالية يتم معاقبة "جرائم الفكر" بسجن المدعى عليه مع ماقد يصل إلى ثلاثة أجيال من عائلته ليتم إعادة تهيئتهم وتثقيفهم أو "تربيتهم" وقد لا يراهم أحد بعدها أبداً. 

أيضاً من أبرز وجوه الشبه المفزعة بين خيال أورويل وواقعية كوريا الشمالية، "وزارة الحقيقة". تظهر هذه الوزارة في رواية أورويل كبناء اسمنتي هرمي ضخم يرتفع ٣٠٠متر فوق سطح الأرض ويتألف من ٣٠٠٠ حجرة. وتعتبر وظيفة هذه الوزارة إعلامية، تثقيفية، تربوية، ومن أبرز أهدافها المرعبة، تغيير التاريخ، حيث يقوم الأفراد العاملين عليها من الطبقة الثانية في الدولة بتزييف الحقائق وإلقاء كل المعلومات القديمة التي لم تعد تناسب توجهات الدولة والأخ الأكبر إلى المحرقة. و هذا البناء يشابهه بصورة مرعبة فندق "ريوقيونق" وهو بناء هرمي من الاسمنت والزجاج  يعتبر الأعلى في كوريا الشمالية، وتم بناءه ابتداءً كفندق من ٣٠٠٠ حجرة من قبل جنود بنّائين غير مؤهلين، ثم تم تخفيض هذا العدد لعدد أقل ربما بسبب العجز المالي أو الفني. بقي هذا البناء المرعب ناتئاً وشاغراً وبشعاً يتكنفه الغموض لعقود، وكأنه تجسيد لشخصية القائد العزيز التي تراقب الكل من أعلى الهرم و أعلى نقطة في المدينة.






يشرح كريستوفر هيتشنز في محاضرة له، كيف أنه حين زار كوريا الشمالية وجد أن لا حياة خاصة للكوريين الشماليين. ليست هناك لحظة واحدة خاصة دون أن يكون أحدهم جزء من موكب عظيم يهتف للقائد العظيم، أو أن يكون تحت حظر التجول بعد الثامنة مساء. البرامج التلفزيونية لاتبث إلا ماله علاقة بالقائد العزيز\العظيم طوال وقت البث. الحياة كئيبة والناس بلا حياة، يرتدون ملابس بالية، وجوههم ناحلة.

أخيراً، تظهر فكرة تأليه وتقديس الأخ الأكبر والقائد العزيز، والإحساس بالإمتنان الصادق والعميق لهما لكل ما يناله المرأ من مأكل وملبس ومعاش حاضراً في الرواية والواقع كفرض على الأفراد، كذلك فإن الخوف والفزع صفتين ستحلان مثل لعنة على كل من تسول له نفسه الحياد عن هذا النظام! الغالب أن القارئ لابد وأن يستشعر الكآبة المنعكسة في ١٩٨٤ وستتبدى له في ذهنه بخيالات ورؤى قاتمة ورمادية هي الألوان الغالبة على أجواء وشخوص وأبنية أوقيانيا ١٩٨٤.

في المقابل، فإن المقاطع القليلة على الانترنت لكوريا الشمالية تُظهر العاصمة بيونق يانق شبه خالية من السكان، يتوسطها البناء الهرمي البشع، وقلة قليلة من سائحين وجلين يصورون من على الـ"ريوقيونق" المدينة الكئيبة وشوارعها الخالية وهم يلوحون للفراغ.

وكما تصوّر ١٩٨٤ الأفراد كقطيع لا يتمايز، يرتدي الرجال في الحزب العامل ذات الملابس، تتشابه الملامح، وقصات الشعر والحركات الآلية والغضب المفتعل على العدو، طلع القائد كيم جونق أون في شهر مارس الماضي بقائمة قصيرة من قصات الشعر المحددة المسموحة للشعب وبأمر خاص للتلاميذ بقص شعورهم على طريقته الغريبة، كما أن من يخالف هذه الأوامر سيلاقي عقوبة مشددة! الغريب في الأمر، أن أورويل نفسه يظهر في أكثر من صورة بقصة شعر مشابهة لقصة الزعيم الكوري الحالي كيم أون!!

في ١٩٨٤ يبدو مؤسفاً كيف يتعمد الحزب إخفاء وطمس كل مايتعلق بالماضي من أشياء جميلة، الذكريات، الآثار، الألعاب، وحتى تهويدات المهد، ويظهر وينستون في الرواية منفعلاً جداً لالتقاطه تهويدة قديمة من أحد العموم الكبار في السن أو لدى عثوره على متجر عتيق يحوي مقتنيات قد تنتمي للحقبة القديمة. أما عن أحوال الماضي فلاشيء مؤكد! كل ما هناك جرى تشويهه ولم يعد بإمكان ونستون إلا أن يتمسك بأشياء لامعنى لها كقطعة مرجان صغيرة يظن أنها تعود لزمن ماقبل الحزب.

 هذا القمع لحرية الأفراد والمسخ المتعمد والتشويه المجتمعي كان من أبرز سمات أوقيانية أورويل كما أنها ليست بالغريبة تماماً في واقع اليوم في كوريا الشمالية أو غيرها. هكذا إذن تحققت نبوءة جورج أورويل المرعبة من حيث لم يُرِد، وربما لازالت تتحقق بصورة أقل جلاءً في أنظمة أقل شمولية.





السبت، 19 أبريل 2014

يجيئكَ من مطلع الوطن الموت

نزيه أبو عفش


يجيئُك من مطلعِ الوطنِ الموت،
لا..
اسمحيلي إذن بالحديث عن الزهر
يأتيكَ من يقفلُ الشرفات على الزهر
لا ..
اسمحيلي إذن بقليلٍ من الماء والقهوةِ الساخنة
واتركي لي صليبي
أحصن به جسدي قبل أن تُعلَن اللحظة الماجنة..
إنني عاشقٌ وحزين
سأعترفُ الآن
لاتغلقي الباب
يحسنُ أن تدخلَ الشمسُ منزلنا
وتجيء الطيورُ لتطعم من قمحنا ثم تمضي
يحسن الآن أن نتغنى
ولكنني عاشقُ وحزين.
إذن كيف تبدأ،
إنني أحاول أن أستدير إلى مصدر الحزن
أحصي على عجلٍ جسدي وأميز أشلاءه!
كان (واضحُ) يسكن مستغرقاً في نشيدي
ثم هاهو ذا الآن يسبح مكتئباً في دمائي
كانت الشرفات الوديعة
تصحوا مجللة بالزنابق والغيث
لكنها اليوم تخلع أزهارها الواجماتِ وتأوي إلى النهر
كانت حفافي البساتين تلتم مذعورة والمساكن تهبط
فهد الفقير يمد عباءته في العراء ويبكي
حسيبُ المقاولُ يحصي غلايينه
الأمهات يعاتبن خالقهن ويبكين
والشهداء يمدون أذرعهم صوب مائدة الفصح
مكتئبين
وصوت العصافير..
لا..
افتحي الباب كي تدخل الشمس
من زمنٍ وأن قانط
أتبدد مابين حزني وخوفي عليكِ
أبدد جسمي على ورق اليانصيبِ،
وأبكي..

على الوطنِ الآن أن يتملى جرائمه في دمي أو نشيجي
على الوطن الطيب الآن أن يتحقق من جسدي..
إنه جسدي،
وأنا قانطٌ يا بلادي
افتحي البابَ،
لا تدخلي إخوتي
فأنا أنشج الآن
يا أيها القَتَلة،
إنني أبدأ الآن مرثيتي فاسمعوني
لقد جعتُ
هاجمني في عتابي إلى الله جيش
دُفِعتُ إلى ميتةٍ صعبة
وقُتِلتُ مراراً
ولكنني لم أذق وطني
كنتُ أشتاقه في غنائي
ولكنني كنتُ أخشاه إذ يتمايز
مابين صحن الحساء الفقيرِ وخابيةِ الماء
مابين أعيانه وصليبي.

تقبلُ الآن شمسٌ،
دعوني إذن أتدفأ
حزين أنا أيها الوطن الصعب
مستوحشٌ وحزين،
أردّ إلى أصله جسدي،
فأرى أمما لا تعدُّ، تقومُ معي كي ترد إلى أصلها،
أستعيدُ نشيجي،
فتشرق في وجعي أمم وتبوح بأوجاعها،
أستديرُفتمشي على جثتي البشريةُ جمعاء..
أبكي،
 فيبكي معي الله.

تتسعُ الشمس،
من هاهنا أبدأ الآن،
يا أيها القتلة،
جاءكم أمس من يطلب الخبز،
أعطيتموهُ منيته،
وضننتم عليه بأكفانِهِ..
جاءكم واضحُ، القرويّ الحزين
يقايضكم بشعيرٍ على دمه
ثم جاء حسيبُ المقاول
فانهمرَ الوطن الصعب من حولي
وتدلت إلى راسهِ سلةُ الرب..
قال له الربُّ، خذ!
ثم قال له الرب "كل"
ثم قال له الربُّ "تنسى"
ولكنني شاهدٌ وأذكر.
هاهي ذي الأمم، الجثثُ، الأغنياتِ، الدماءُ، الحروب، المجاعات
فاستنطقوها،
ها نساءٌ يبكين،
وها وطنٌ لم يسع أهله قبل أن يقعَ الموت
فاستنطقوه.
ثم ها أنذا يتمايزُ لي وجهه في الحساء الفقير
ولكنني قانط وبريء
وبددني وطني..

تجيئك من مطلع الوطن الشمس،
لكن جسمي بديد
ولم يبقَ لي ما أُغنيه،
لم يبقَ في جسدي ما يُغنّى..
لماذا يبددنا هكذه الحزنُ
أيُّ صفصافة سكنتنا معاً يا بلادي
وفي أينا كل هذي الخلائقُ تبكي
دمي أم ترابك
قلبي أم الوطن المستحيل
تعبتُ على مهل
غير أن العصافير ما فتأت تستديرُ إليّ،
مسربلةً بالأناشيد والشمس
ثم تغيبها الريحُ والسحب الداكنة،
تقتفي أثر الماء والسحب مدفوعةً بالأناشيد.
ثم يعاودها الخوف
لكنها ما تزال تغيب وتظهر
ثم تغيب وتظهر
ثم تغيب ولا ..
ثم تدرك أجسادها الطلقةُ الماجنة.
وحسيب المقاول يحصي غلايينه وبلادي..
النساء يعاتبهن خالقهنَ:
كفى..

يتمايز من مطلع الوطن الموت
متشحاً بالرياحين.. والقمح، والحلل الفاتنة
وأنا قانطٌ قانطٌ قانط
فاسمحيلي إذن بقليلٍ من الماء والقهوةٍ الساخنة.

صدقيني تعبت..
تجاورتِ النارٌ في جسدي والمياه
اكتوت تحت جلدي الشعوب،
وبللني دمها،
صدقيني تعبتُ إلى آخري يا بلاددي..
أمِن أجل هذا تقيمينَ عرشكِ في داخلي؟
وتنامينَ محفوفة بالنعاس الوديع؟
تمدين من جلد قلبي بساطاً وتخطين من فوقه،
أي نارٍ تجللني..
أي ماء حزين يحف بأنحاء جسمي،
أي مجدٍ مريب
تؤؤب إليه الطيور الضليلة مشتاقةً،
ثم يدركها الموت
من قبل أن يتماثل فيها النشيد إلى لحظة الشمس..
يا للبلاد الجميلة،
كيف استتبَ لأطيارها الموت،
كيف انسَلَلْتُ بقلبي إلى دمها،
واعتمدتُ نشيدَ الذبيحة،
يا للبلاد الجميلة!
تخطوا على جلد قلبي
محاذرةً أن تمس بساتينه،
وتعيق حفيف السنابل فيه
تميلُ على ورقِ الزيزفون
وتنهاه عن حسنه
تتداخلُ في ماء قلبي
وينشرني حسنُها المتجدد..
ياللبلاد الحزينة!
كم تظهر الآن عاصيةً وتعذب.
كم يتشابه في أرضها الماء والدمع
كم هي فاتكةُ ورجيمة
يالها، إذ تمد على دم أطيارها المتوهج سجادها العجميّ
وتخطو،
تحفّ بموكبها المترهل حاشيةُ العنكبوتِ
وطائفةُ الذبح
تفتح جسم عصافيرها بالمسامير والنار
يختلج القمح فيها وتذبل أعناقه،
إنه الدم
يهبط.. يهبط.. يهبط..
يغتسل الحجر المتوحش بالدم، بالدم، بالدم..
يا للبلادِ الجميلة!
كم هي فاتكةٌ وتعذّب،
كم يتشابكُ في أرضها الماء والدم،
تتمدد حمراءَ شاسعة ثم تسقط
حمراء مشعلة من جميع الجهات
آه، ياللبلاد الذميمة،
كيف تنتشر الآنَ حمراء، حمراء
يختلطُ الوحلُ فيها بريش العصافير
يختلط الدم فيها بأذرعة القمح
يختلط الصمتُ فيها،
بمئذنة الله!
يا للبلاد المشعّة!
كيف أميزها عن دمي
كيف أخرجها من دمي
كيف أدخلها وأنا بعد ممتلئٌ بحرائقها
والمسامير
ممتلئ برماد العصافير
ممتلئ بخطى قدميها المثابرتين
على لحم قلبي
إذا لم تكن ما تدفئك الشمس،
لم تكن الشمس،
كنت أدفئ جسمي إذن بحريقي
ولم تكن الشمس//
أرجوكِ،
 لا تفتحي البابَ مابين قلبي وبين بلادي
هي الظلمة الآن
كم تتبدى لعينيَ مؤنسةً
وأنا لستُ بردان
لكنها لحظة الوله الفاتنة
تتراءى لقلبي وتعبره
وأنا لست مستوحشاً
وأنا لست بردان
لكنني عاشق وأذوب انعتاقاً ومغفرة
فاتركي لي صليبي
أحصن به جسدي قبل أن تُعلَنَ اللحظة الماجنة،
واسمحيلي بشيء من الماءِ
 والقهوة الساخنة.