الجمعة، 12 أكتوبر 2012

شاي جدتي






تخبرني شيطانةٌ صغيرة أن الشاي في هذا الوقت المتأخر من المساء -أعني مابعد منتصف الليل- قد يصلح عطب هذا اليوم. 
أفكر وأنا أحاول أن أحتسي الشاي بطريقةٍ متحضرة، فيما لو كان ذلك ممكناً! 
غير أنني سرعان ما أتذكرُ بمرارةٍ لذة مذاق شاي الحبقِ في كؤوس جبن الكرافت التي كانت جدتي تستعملها لتقديم الشاي. 
ياللمرارة! كل هذا الجهد، هذا العناء، هذه الطقوس المصطنعة، شمعةٌ تتراقص، وليلٌ يرافقُ أغنيةً فرنسية، جلسةٌ متأنقة، وكل هذا الكريستال الفاخر، هذه الوجوه المصبوغة بأضواء المدينة، وتلك القهقهات التي تحز السكون في حنجرة الليل برعونة، 
كل هذا لأتذكرَ كم كان شاي جدتي الملّقمِ لذيذاً، وكم كان كأسُ الشايِ المتواضعِ فاخراً، وكم كان فستاني الملطخ بالوحل جميلاً، وكم أنا اليوم غريبةٌ جداً ياجدتي،
غريبة، تماماً كما قد تبدوا كؤوسك المبتكرة تلك في حفل الكريستال الباذخ هذا.


الثلاثاء، 15 مايو 2012

جناحايَ من ورَق




كان قد ترَكَنا عند كراسي المطار المتناثرة وغاب بين عربات الحقائب الملونة.
حين عاد ووجدني مُنكَبَة بقلمي على دفترٍ صغير، رفعَ حاجبيه مُتندِّراً وقال، "هل حقاً لازلتم تعيشون بيننا! أنتم، من تكتبون مذكراتكم اليومية!؟".


الواقع انني لم أكن أفعل ذلك، كل مافي الأمر هو أن جملةً عبرت رأسي كغزالٍ صغير فعرقلتُ مرورها بقلم!
أنا لم أعد أكتب كثيراً، ولم أكن أفعل ذلك أصلاً، أعني الكتابة بكثرة. أظن بأن الكلام الذي يختبئ بداخلي هو أكثر بكثير مما أدعه يخرج. ملاحظة سخيفة أعلمُ ذلك. الأمر هو ربما محاولة غير مقصودة مني لإخماد جذوة الثرثرة، وهذا أمر غير جيد، أعلم! يذكرني هذا بورشة عملٍ شيّقة كنت مشاركةً فيها، ولم أستطع تمالك نفسي عن المداخلة والتعليق على غير العادة. وجدتني بعد عدة مداخلات أكتب في الدفتر أمامي وأنا أتكئ على القلم بشدة "SHHHUT UP!"


المهم أن ذلك الذي لم يتورع عن إطلاق ملاحظة ساخرة أو ربما مستهجنة، أشعرني وكأني ضُبِطتُ متلبسة بفعلٍ أخرق، ولم أعلق وقتها.


لم يكن الأمر أكثر من كونه حادثة. غزالٌ صغير يركض في رأسي وتثير قفزاته غبار الكلمات الخاملة. قلبي كان يركضُ هو الآخر، يركض ويسبقني إلى حجرتي، إلى أشيائي، وسائدي، رائحتي التي تركت هناك، (لانحنائةٍ قد تكون أو لاتكون) لفردة الحذاء الملقاة في وسط الحجرة، للفوضى التي لم تتسع لها حقائب السفر وبقيَت تمارس صمتها عند سجادة الصلاة. 


المطار الشاسع كان يبدو كبهو فندق أنيق، غلبت عليه ألوان الخشب الماهوقني والذهبي والبرونز. جناحان هائلان أخذا مساحة كاملة لأحد الجدران، أعني جناحيّ طائر.لابد أن يكون إهداءً من أحد فناني المنطقة .  على يمينه قليلاً كانت منطقة مفتوحة من ألعاب البلاي قراوند للأطفال! لا يبدو المشهد برمته متناسباً مع صورة  أي مطار نموذجي تحتفظ بها في ذهنك، غير أن لاشي كان يبدو متسقاً أو متناسقاً سوى جناحي ذلك الطائر المفقود ولون الخشب الصقيل هنا وهناك.


جناحان معدنييان بالكامل، مفتوحان على آخرهما في دعوة غير مغرية أبداً لاحتضان المسافرين أو لتوديعهم!
ذهبيان كبيران، كنتُ لأتمنى أنني تعلقت بهما أو تعلقا بي، لولا أن هيكلهما المعدني لم يكن ليلائم هذا الجسد الطيني.


ودّعناه، فيما تبعتني ابتسامته الساخرة حتى باب الطائرة، وكلماته، "اكتبي في الطائرة أيضاً"!


أكرهُ باب الطائرة! أكرهه كثيراً. أشعر بأنه يمارس علي سلطوية مطلقة. باب حديدي سخيف لم أتمعن تماماً يوماً في كيفية فتحه أو إغلاقه. أفهم فقط أن هناك إشارات مضيئة ينبغي أن تقودني إليه في حال وقع مكروه. هذا "المكروه" أمرٌ أفهمه تماماً. أفهمهُ أكثر مما ينبغي ربما، حتى أنني لا أستطيع فهم أي شيءٍ عداه وأنا على متن ذاك الشيء.
لا أظن بأني أخشى الارتفاعات، فأنا لا أمانع الجبل، ولا الجسر، وقد تعلقت يوماً ببارشوت عالٍ يجرّه قاربٌ سريع ولم أمت هلَعاً!
أنا فقط أخشى الهاوية، وأخشى الموت في المنتصف، وأخشى ذلك الطائر المعدني.


أجلس، أحاول أن أغمض عيني. دائماً رحلات العودة أشقُ عليَ. فقط أود الوصول. فقط أتخيل معنى أن أعود لأجد كل الفخاخ التي نصبتُها لعودتي لازالت تنتظرني. كلها منصوبة كما تركت!


ثم هأنذا أعود، فيستحوذ عليَ الملل المسائي في حين يضرب ابن السابعة بقبضته درابزين المنزل لأنه "طفشان"، بينما أتسلى أنا بالعبوس في وجه المساءات المضجِرة، تلك التي تعقبُ العودة. تلك التي تذكرك أنك بالأمس فقط كنتَ تمشي في شوارع مدينة تسبرُ دهاليزها وتتذوق اصواتها وروائحها وتستمتع بتأديتك دورٍَ الغريب فيها.
 ثم أنكَ تعود. في كل الأحوال تعود. ستكون ممتناً جداً أو ممتعظاً جداً، وكلاهما أمرٌ متوقع. ستحاول قتل الوقتِ بمعاقرة المقاهي وستكتشف أن  كل المقاهي رديئة، لكن بعضها يجيد التبرج، بينما لا تغسلُ الأخرى وجوهها أبداً! وهي جميعاً تسلبك المال بطريقة متحضرة مقابل جلسة "متأنقة" ليست لكَ بالكامل ومحاولات عديدة لنسيان أمور وتذكر أخرى.  ستطلب قهوتك وستجيئك كما أردت تماما أو بلا طعم أبداً.


 ثم ماذا يعني؟ ماذا يعني أن يتخذ الوقت شكل مقهى رديء، ميدانٍ بليد، دراجةٍ لا تتحرك، شمس لا تُغيّر فستانها، شارع لا يردمُ حفره، بقالة بإنارةٍ زرقاء لاتفسد شراهتك للشراء رغم قبحها.. عادي جداً!


العادي أيضاً أنك تصبح بليداً جداً ومُحصّناً، وغير قابل للوخز، تماماً كممحاة تعيشُ في علبة هندسة، وتخرج رغم كل تلك الخوازيق والزوايا الحادة أنيقة، بيضاء، وبلا ندوب! 


عادي جداً أن تصبح الحياة مضجِرة، ذات زوايا حادة وأطراف مستقيمة،
عادي جداً أن تصبح كـ علبة هندسة ، أو كـ جناحين معدنيين يتعلقان رغماً عنك بظهر قلبك.
أو أن تكونَ "ممحاة"! ما العيب في ذلك؟ أصلاً لطالما كانت الممحاةُ بطلة كل علب الهندسة. الأمر أشبه مايكون بـ ولادة، معجزة، أو بريفية أنيقة تخرج من فندق في لاس فيجاس! 
عادي جداً! 


عادي جداً أن لا تكتب لأنك تخشى أن تخدش جدران الوقت والذائقة،   لا لا!  ليس ذلك عادياً. :/ أظنني سأتوقف عن الاهتمام بذلك. على الأشياء أن تتولى مهمة إصلاح خدوشها بعد اليوم وإن لم تفعل فتنقصها الكفاءة إذن.


أنا أصلاً لا أخدشُ كثيراً،
فأنا طينيَة ليّنة و جناحايَ من ورق!

الأربعاء، 21 مارس 2012

Light in My Heart



I hide a light in my heart, 
A light that neither tells nor deceives,
I reach to it and get burnt sometimes,
And still my hand would never cease!
Not the pain I fear but when worries tide,
You know how life doesn't always please!
And despite that Good and Bad reside,
'Heart" is home and it's 'home' we need.
This light for sure,
Some'd see as Fire and some'd find it peace,
My heart's a sun that has to rise,
 Or else I'd freeze.


الأربعاء، 7 مارس 2012

فوبيا


..
نتملق السماء  حين نمتطي الريح
شهوة الأرض تعترينا 
كلُ  هذا القطنِ، هذا السديم
هذه اللانهاية،
العنجهية الساكنة في قلب الشيء الذي لا نرى
في جسد الأفق
 المسجى كسراب

سحائب الغيب،  قطن الغيث..
وعنجهية الأرض
 حين تتبدل خنوعاً 
يتحرر منها التراب
ونحنُ،
والرفقة الممتطون صهوة الأحلام)
وجاذبيةٌ
نتملق السماء 
حينما راغمين أو راغبين نلعن الأرض ونهرب
قطعاً نستكين للغيم 
وللصمت المطبق في تواتره،
في ضوضائه،
وفي السكون الجاثمِ علينا كـ.سرمد

في صمم الآذان إذعان يقتل
في الطنين اللامنتهي..
في نظرة ملاحي الطائرة نبحث عن ابتسامةٍ مطمئنة
أو رعونةٍ لا تخرج عن السياق
أيبحث أحدهم عن سلامة (قلبه) في قالبٍ يرتدي بزّة منمقة 
ويعرفُ جيداً تضاريس المطبات الهوائية؟
في وجع يحافظ على ابتسامة غامضة ترافقها تقطيبة مُفتعلة!

في ترنح الراكب المارق عند مطب هوائي يسقط القلب مسافة ٣٠٠ألف  فزع 
قبل أن يصل الراكب لمقعده لاهثاً 
لاعناً الفيلم الذي كان يتابعه
متملقاً الرب:
أخيراً عرفتكَ،
منها خلقناكم
وفيها نعيدكم
ومنها نخرجكم تارة أخرى!

لا،  ليس في السماء ولا منها ولا إليها..
أيتها الجاذبية،
أقبلّ الأرض التي تحتويك
أدوسُ الغبارَ الذي يزدريكِ
كلّ ترابٍ أبي 
كل أرضٍ أمي
من الطين أنا، قدماي ماهي إلا بعض وحله
أنا التراب الطاهرُ
أنا الطميُ
وأنا الحصى،
وأنا الوحلُ (اللامحمود) (والعاقبة المُوحِلة)

أقبّل أي أرضٍ
وكل أرضْ..
وللسماء أنظر بتوجسٍ حيث أنني أكونُ بشراً،
وحين أتقمص هيئة الطير أحنّ إليها
وأبكي جناحيّ الذي قصصتُ  يوم أحببتُ البَشر وتركتُ ملكوت السماوات
أو كلما فردتُ جناحي لأطير أنزلني الربُّ بلطف منه 
 فإذ بي أستكينُ كطيرٍ سلّم جناحيه لله والقدر
هكذا أتقوقع.. هكذا أستكن
هذا الطينُ أبي.. كلَ أرضٍ   أمي 
جناحايَ  وديعةُ الله
وهذه السماء حلمٌ مهيب 
كقدرٍ 
أو ربما كـ فاجعة

الاثنين، 6 فبراير 2012

نوستالجيا الضوء






البيوت القديمة، الذكريات، رائحة فحم التنور، دعوات الأمهات الطيبة على نواصي المساء، النوافذ المضاءة بحكايا الجدات، وأزيز صراصير الليل المضيئة،
تلك الألفة الحزينة، الألفة المُبكية،  
تلك اللهفة لما يلي الليل، وما يتبع النهار، ومايزيد الحياة حياة ويُشبعُ التفاصيل القديمة بطيوف ألوانٍ يعرفها القلب جيداً ..

نسترق النظر للنوافذ، الوجوه، التجاعيد العميقة، الطرقات الضيقة، لذلك الأثر البعيد في صوت جدةٍ بعيدة كنا نعبث بمذياعها، نذكر الإطار السميك لعويناتها أكثر من ملامح وجهها، ورداء القطن الأبيض المطرز تحت فساتينها..  


نذكرُ الأصوات الجماعية لرفقة النهار حين تداعب أصواتهم وحصاهم الصغيرة زجاج النوافذ الصديقة... ووقع دقات الأرجل العارية على تراب الكثيب الذي يتخده الصِبيةُ ملعباً..

نذكرُ نداءات الحواتين في الصباحات، وعربات البطاطا والمثلجات، بائعي الذرة المشوية وطائراتنا الورقية الملونة إذ تتبع سربنا الجميل الذي يداعب أديم الأرض الأرحب فيما تتعلق الأعين بزرقة السماء وسرب طيور ملون يوزع الفرح على أفواه الصغار المندهشة!



دفعة واحدة تنهال الذكريات، فتسحق أسوارنا وتلك العزلة المنيعة، ذلك التمدّن المعلّب، والأنفة المعقدة..
دفعة واحدة نتسلل من كوّة في زاوية خفية من القلب متوشحين شيئا من حنين مشبوه نتناوله بقداسة من أيدي رفاقٍ خفيين لانعرفهم.


مانحن إن لم نتذكر رائحة الطريق غير المعبّدة وتراب الأزّقة وصرير الأراجيح الخشبية والأبواب البحرية وعرق الأسماك المسافر من الساحل عبر حارات المدينة!
ما أنا إن لم أتذكر وقع عصى جدي على العتبات، منديل جدتي، وأغنيات رددتها الخالات يوم كانت المدينة تشبه صندوق ألعابٍ صغير يصدر الدهشة.. 


نحنُ نذكرُ كل شيئ، نذكرهُ تماماً، ونخبئ في ركنٍ قصيٍ منا تلك الفتنة المغوية وذلك الجمال العصيّ على التكرار،
لامناص من النسيان فالذكرى موتٌ آخر،

وهذه الذاكرة المرهقة المثقلة ستنهارُ كمبنى مهترئ،
ستنهمرُ كغيمة عند شباك مطعمٍ أرمني، سأجلسُ قبالته على شرفة شتوية .. ستتسمر عيناي على قضبانه، على ستائر الحرير المطرز، الحائط الحجري، والإطار العتيق الذي سيحيط بصورة جدّي السابع عشر..


هذا الحائط الحجري كان يضعُ لبناته بناءٌ لم يفكر قط كم سيصلح هذا الجدار من عطب ذاكرةٍ لعابر، وكم سيفسد سيل الذكريات الملّون هذا إسمنت المدينة الرمادي!

هذه الذاكرة المثقلة، هذا الحَمل الطويلُ الطويل.. كم بهم من جمال،
وكيف حين لاندشن وحدتنا بهم، لا نتفتح، لا نزهر، لا نثمر؟ لا نضيء؟  كيف؟ كيف؟


فقط لو أننا نسترق الذكريات أو نسرقها، 
فقط لو تبدت لنا في المرايا ملامح أطفال يشبهوننا،،

فقط لو عادت تلك البيوت القديمة، النوافذ، الحكايات، ورائحة الصبح المتسللة من خشب النافذة العتيق، وصوت أغاني المذياع ترافق قرقعة أواني الجدات في المطابخ الحجريّة، 

هل كان كل شيء حينها سيكون على مايرام؟!