الثلاثاء، 15 مايو 2012

جناحايَ من ورَق




كان قد ترَكَنا عند كراسي المطار المتناثرة وغاب بين عربات الحقائب الملونة.
حين عاد ووجدني مُنكَبَة بقلمي على دفترٍ صغير، رفعَ حاجبيه مُتندِّراً وقال، "هل حقاً لازلتم تعيشون بيننا! أنتم، من تكتبون مذكراتكم اليومية!؟".


الواقع انني لم أكن أفعل ذلك، كل مافي الأمر هو أن جملةً عبرت رأسي كغزالٍ صغير فعرقلتُ مرورها بقلم!
أنا لم أعد أكتب كثيراً، ولم أكن أفعل ذلك أصلاً، أعني الكتابة بكثرة. أظن بأن الكلام الذي يختبئ بداخلي هو أكثر بكثير مما أدعه يخرج. ملاحظة سخيفة أعلمُ ذلك. الأمر هو ربما محاولة غير مقصودة مني لإخماد جذوة الثرثرة، وهذا أمر غير جيد، أعلم! يذكرني هذا بورشة عملٍ شيّقة كنت مشاركةً فيها، ولم أستطع تمالك نفسي عن المداخلة والتعليق على غير العادة. وجدتني بعد عدة مداخلات أكتب في الدفتر أمامي وأنا أتكئ على القلم بشدة "SHHHUT UP!"


المهم أن ذلك الذي لم يتورع عن إطلاق ملاحظة ساخرة أو ربما مستهجنة، أشعرني وكأني ضُبِطتُ متلبسة بفعلٍ أخرق، ولم أعلق وقتها.


لم يكن الأمر أكثر من كونه حادثة. غزالٌ صغير يركض في رأسي وتثير قفزاته غبار الكلمات الخاملة. قلبي كان يركضُ هو الآخر، يركض ويسبقني إلى حجرتي، إلى أشيائي، وسائدي، رائحتي التي تركت هناك، (لانحنائةٍ قد تكون أو لاتكون) لفردة الحذاء الملقاة في وسط الحجرة، للفوضى التي لم تتسع لها حقائب السفر وبقيَت تمارس صمتها عند سجادة الصلاة. 


المطار الشاسع كان يبدو كبهو فندق أنيق، غلبت عليه ألوان الخشب الماهوقني والذهبي والبرونز. جناحان هائلان أخذا مساحة كاملة لأحد الجدران، أعني جناحيّ طائر.لابد أن يكون إهداءً من أحد فناني المنطقة .  على يمينه قليلاً كانت منطقة مفتوحة من ألعاب البلاي قراوند للأطفال! لا يبدو المشهد برمته متناسباً مع صورة  أي مطار نموذجي تحتفظ بها في ذهنك، غير أن لاشي كان يبدو متسقاً أو متناسقاً سوى جناحي ذلك الطائر المفقود ولون الخشب الصقيل هنا وهناك.


جناحان معدنييان بالكامل، مفتوحان على آخرهما في دعوة غير مغرية أبداً لاحتضان المسافرين أو لتوديعهم!
ذهبيان كبيران، كنتُ لأتمنى أنني تعلقت بهما أو تعلقا بي، لولا أن هيكلهما المعدني لم يكن ليلائم هذا الجسد الطيني.


ودّعناه، فيما تبعتني ابتسامته الساخرة حتى باب الطائرة، وكلماته، "اكتبي في الطائرة أيضاً"!


أكرهُ باب الطائرة! أكرهه كثيراً. أشعر بأنه يمارس علي سلطوية مطلقة. باب حديدي سخيف لم أتمعن تماماً يوماً في كيفية فتحه أو إغلاقه. أفهم فقط أن هناك إشارات مضيئة ينبغي أن تقودني إليه في حال وقع مكروه. هذا "المكروه" أمرٌ أفهمه تماماً. أفهمهُ أكثر مما ينبغي ربما، حتى أنني لا أستطيع فهم أي شيءٍ عداه وأنا على متن ذاك الشيء.
لا أظن بأني أخشى الارتفاعات، فأنا لا أمانع الجبل، ولا الجسر، وقد تعلقت يوماً ببارشوت عالٍ يجرّه قاربٌ سريع ولم أمت هلَعاً!
أنا فقط أخشى الهاوية، وأخشى الموت في المنتصف، وأخشى ذلك الطائر المعدني.


أجلس، أحاول أن أغمض عيني. دائماً رحلات العودة أشقُ عليَ. فقط أود الوصول. فقط أتخيل معنى أن أعود لأجد كل الفخاخ التي نصبتُها لعودتي لازالت تنتظرني. كلها منصوبة كما تركت!


ثم هأنذا أعود، فيستحوذ عليَ الملل المسائي في حين يضرب ابن السابعة بقبضته درابزين المنزل لأنه "طفشان"، بينما أتسلى أنا بالعبوس في وجه المساءات المضجِرة، تلك التي تعقبُ العودة. تلك التي تذكرك أنك بالأمس فقط كنتَ تمشي في شوارع مدينة تسبرُ دهاليزها وتتذوق اصواتها وروائحها وتستمتع بتأديتك دورٍَ الغريب فيها.
 ثم أنكَ تعود. في كل الأحوال تعود. ستكون ممتناً جداً أو ممتعظاً جداً، وكلاهما أمرٌ متوقع. ستحاول قتل الوقتِ بمعاقرة المقاهي وستكتشف أن  كل المقاهي رديئة، لكن بعضها يجيد التبرج، بينما لا تغسلُ الأخرى وجوهها أبداً! وهي جميعاً تسلبك المال بطريقة متحضرة مقابل جلسة "متأنقة" ليست لكَ بالكامل ومحاولات عديدة لنسيان أمور وتذكر أخرى.  ستطلب قهوتك وستجيئك كما أردت تماما أو بلا طعم أبداً.


 ثم ماذا يعني؟ ماذا يعني أن يتخذ الوقت شكل مقهى رديء، ميدانٍ بليد، دراجةٍ لا تتحرك، شمس لا تُغيّر فستانها، شارع لا يردمُ حفره، بقالة بإنارةٍ زرقاء لاتفسد شراهتك للشراء رغم قبحها.. عادي جداً!


العادي أيضاً أنك تصبح بليداً جداً ومُحصّناً، وغير قابل للوخز، تماماً كممحاة تعيشُ في علبة هندسة، وتخرج رغم كل تلك الخوازيق والزوايا الحادة أنيقة، بيضاء، وبلا ندوب! 


عادي جداً أن تصبح الحياة مضجِرة، ذات زوايا حادة وأطراف مستقيمة،
عادي جداً أن تصبح كـ علبة هندسة ، أو كـ جناحين معدنيين يتعلقان رغماً عنك بظهر قلبك.
أو أن تكونَ "ممحاة"! ما العيب في ذلك؟ أصلاً لطالما كانت الممحاةُ بطلة كل علب الهندسة. الأمر أشبه مايكون بـ ولادة، معجزة، أو بريفية أنيقة تخرج من فندق في لاس فيجاس! 
عادي جداً! 


عادي جداً أن لا تكتب لأنك تخشى أن تخدش جدران الوقت والذائقة،   لا لا!  ليس ذلك عادياً. :/ أظنني سأتوقف عن الاهتمام بذلك. على الأشياء أن تتولى مهمة إصلاح خدوشها بعد اليوم وإن لم تفعل فتنقصها الكفاءة إذن.


أنا أصلاً لا أخدشُ كثيراً،
فأنا طينيَة ليّنة و جناحايَ من ورق!

هناك تعليقان (2):

العراف يقول...

جميلة وممتعة ، حتى الرمق الأخير

أعجبتني ..

اكتبي سيدتي واخدشي جدران الوقت والذائقة .


شكرا

Gardi يقول...

سعيدة أن أعجبتك.

أهلاً بعودتك ^ـ^