الثلاثاء، 11 نوفمبر 2008

أستراليا.. مجدداً!

بعد يومين من السفر الطويل، ها أنذا أخيراً في مدينة لم أحبها يوماً تماماً ولم أكرهها كذلك.. يومان إذن من الطيران الذي لا أحب، والطعام الغير مستساغ والمطبات الهوائية .. واللا نوم!
السفر الطويل، وأتذكر خالي.. ذلك الجميل الذي لا يخلو من طرافة لا يضاهيها سوى مزحه الثقيل.. كنا نعرج على منزله أحياناً عندما نضطر للتوقف يوما او بعض الوقت في مدينة الرياض (التي لا احب ايضا) وكان لا يتوانى في تلك السويعات القليلة عن بث روح القلق في أنفسنا المترقبة لشهور الغربة القارسة أصلاً.
"السفر قطعة من جهنم" يقولها ضاحكاً بينما ترتعد أمي خيفة في حين أردد في نفسي لعنات على مزحه (البايخ).
أعود بالذاكرة إلى الوراء كثيراً، إلى أول مرة تلقفتنا فيه أحضان الغربة الباردة..
مدينة بيرث الاسترالية إذن، والمكان تحديداً شقة صغيرة مكونة من مطبخ خدمة ودورة مياه وحجرة واحدة بسرير مفرد وحيد، برد قارس، واجهة زجاجية كبيرة، والكثير من الطرق على أبواب الرحمة! كان المكان مخصصا لطلبة الجامعة وكان والدي في أول خطواته لنيل شهادة الدكتوراة..
تعاقب بعد ذلك تنقلنا في اكثر من منزل مستقل، ربما اثنان او ثلاثة.. لم أعد أذكر تماماً.. المهم أننا بدأنا نستقر تدريجياً وأصبحت الغربة أقل وحشة والوطن أكثر بعداً..
كانت المدينة فارغة تماما من رائحة الوطن، ليس هناك سوى الدكتور سعد، وهو طبيب من منطقة القصيم على وشك الانتهاء من دراسته وغادر هو وعائلته بعد شهور قليلة من وصولنا..
أحست ماما بغصة شديدة لدى مغادرة الدكتورة مها، زوجة سعد وربما بكت أيضاً لأنها فهمت أن عليها أن تقاسي غربتها النسائية وحيدة حتى من الاحساس بالمشاركة..
لمَ كانت الغربة تبدو كوحش كبير يبتلعنا في جوفه بينما لا نملك سوى الدعاء بأن تنقضي السنوات الطويلة سريعا؟
مضت السنوات زاحفة بنا وأصبح الوحش صغيراً ومستأنساً إلى حد بعيد خصوصا بعدما غادرنا تلك القارة النائية الصغيرة، وبعدما كان صدر الوطن منتهى حلمنا كيف تقنا اليوم للخروج من كنفه جاحدين، أم أننا كنا ذات يوم ساذجين وبسطاء؟!

لم أعد أشعر بتلك الغربة اليوم، إلا أن بعضا من غربة لازال يسكنني، وأتذكر أن شيئا من الغربة قد يفيد أيضاً، فأنا أحتاج لتجديد مفهوم الحياة بالنسبة لي، وأنا أحتاج لتجديد الهواء أيضا..
في الآونة الأخيرة لم يعد بمقدوري حتى الكتابة، ذلك المتنفس الوحيد الذي كنت أتنشق أوكسجيني من خلاله.. أتلمس الحرف كمن يلمسه لأول مرة، لا أدري من أين أكتبه وكيف أعيد تلاوته!
ها أنذا أخيراً في بيرث، مرة أخرى.. زائرة عابرة هذي المرة لا مقيمة.. أتلمس وجه المكان بحياد بالغ.. وأتوق لبيتي كما لو أني مكثت هنا دهراً..

ربما أبكرت في العودة .. ربما..

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

ربماهو مفهوم آخر للغربة
ومعنى آخر يطيل غيابه على الآخرين
وهنالك حينما تحتسين بإحساس قديم جديد طعما للسنين التي لازالت تتموج في فنجان قهوتك التي لاشك أنها لم تعد كما كانت ولكنهابذات الشعور المرتبطين به
والإنسان الذي مابرحنا نستوقد أرواحنا منه عطاء
لم تكن بيرث محطة غربة ولكنها ناحية تبلور فيك غربات عدهوأحاسيس مره وواقع أمر
ربما تعانين هناك مفهوم دارج للغربه
ولكن كم من غربة هنا تعيشين
وبتأمل بسيط كم كانت حروفك أشبه بحمائم السلام وكلماتك مساحات تطوف بها في سماء الحرية التي نتوق
مهما تشابهة الظروف تبقى في دواخلنا قناعات ان الفرق شاسع وأن الأماكن قد تجيءبما لا يمكن في أماكن أخرى
نعي نحن حقيقة الأشياء
ومدى سعة تلك الفضاءات ورحابة صدرهالأحتواء آدميتنا المخنوقة هاهنا
والتي لايعوضنا عنها سوى استنشاق حبيبات ترابه ولثم أرجائة المترامية في جوانبنا والكثير مما في ملامح آبائنا وصدور أمهاتنا المكتضة بأعبق الأحاسيس التي لو طويناها طولا وعرضا لما وجدنا أصدق من قلبا
كلمات أجدني اتباعد بها حجم المجرة
لأرى مساحات من خلالها وأفاق ماكنت أعانقها لو لما تدثرني دفئها ويصدقني المعنى المستنير لها أننا في حقيقتنا نظلم الإنسان
يقول الإمام علي..
الناس صنفان.. إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق
وأستعذب مع مظفر حينما يطلق إحدى تنهيداته وهو يستنشق هواء الحرية في قفصه الصدري المشبع بهوم لأول لها ولا آخر ..وهو يقول,,أتعبتني غربة ... عانيت فيها .. بين إنسان وإنسان حدود

هكذا أتيه انا بين لهيب حروفك وإنسانيها
جميل ورائع ماتحملينا له معاك دائما وأبدا

حســـين