الأربعاء، 19 أكتوبر 2011


 لعنةُ الإسمنت
 رمادول


" سأقولها صراحةً، وبكل وضوح!
أنا بحاجة لأن ألفُظَ المدينة من داخلي. لأن أنفضَ هذا الغبار الإسمنتي من على كتفيّ وذاكرتي.. أنا بحاجة لأن أتحرر.. أتحرر كلياً، نهائياً، وقطعياً. بصورةٍ حاسمة، ودون أدنى شك! "

هذا الصباح يمر كغيره. يتقدم ساعتين أو يتأخر ساعتين. ذاتُ البوابةِ العتيقة، الوجوه الكالحة، الأصوات الجشّة، والضحكات التي يسبق سفورها الزمن بسنواتٍ ضوئية..

تانكَ المرأتان اللتان تقتعدان كرسيين حديديين كما كل يوم، وثالثة تتكئ بسطوة على إطار الباب الشامت، كلهنّ يبدينَ بهيئةٍ واحدة، غير أن إحداهن لا بد أن تكون نحيلةً أكثر مما يجب، والأخريتان بدينتان قليلاً. هكذا كان الأمرُ دائماً.
أعبرُ مُتعمدة أن أثقل الخطوَ استعداداً للسؤال البديهي: بطاقتكِ يا...!؟
يخرجُ الصوتُ آلياً وبطيئاً إلى حدٍ يتعينُ عليك معه أن تؤخر ساعتك دقيقتين أو أكثر في تلك الثانيتين. يخرجُ الصوت آلياً جداً، لأجد نفسي أدققُ في الوجه الرمادي بحثاً عن براغٍ  ينبغي أن تكون مزروعةً في مكان ما على فكين معدنيين!
أخطو بسأمٍ ولامبالاةٍ عابرةً المدى الفلورسنتي نحو شمسٍ تختلف عن تلك التي بالخارج أنها أشد وطأة وأقوَمُ زمهريرا..
هذا السأم ينالُ مني، أعترف! هذه المدينة تحتلني بصورةٍ سلبية جداً. لقد حرثتني بمخالب مطليّة، وبذرتني بمسامير وبراغٍ صدئة في انتظار أن تتبرعم بذورها لتحصدني مدناً رمادية، مصانعَ، روبوتات، ناطحات سحاب، مكاتب باردة، عيادات تجميل، وأطفالُ أنابيبٍ بلا ملامح.
إنني أتآكل شيئاً فشيئاً. يغسلني السأمُ من درجات الطينيّ وخِفَّةِ الريحِ والأبيض السماويّ، ويحقِنُ جلدي بثِقل لونٍ زئبقيٍ مراوغ، أخفيهِ تحت مساحيق الزينة ذات الألوان الأرضيّة العارية.
 صديقُ المدينة الساكن في طبقة سماويةٍ دنيا يشتلُ قشةً في ظهري، يمتصني من خلالها أنّى شاء. صديقتي التي يغطيها الرمادي الهندسيّ حتى لم أعُد أذكر شكلها تقول بأنني أفقد وَزني بصورةٍ مريعة!

أقولُ إن هذه المدينة تحتلني بصورةٍ سلبيةٍ جداً في كل يومٍ أزعم أني سألفظها خارجي، ومن ثم فإني أنفض هذا الرماديّ من على كتفيَّ ورأسي، وأزيح بقايا عظام المدينة النخرة بشهيق يستنهضُ  كل ذرة يخضورٍ في شجيرات المدينة قد تصيبُ قلبي بعدوى الأخضر المبكي!

يا إلهي! مضَت سنتان ونيف وقلبي مترعٌ بتفاصيل المدينة الفاسدة. صدري منفضة دخانها.
 أيُّ تلك العاهرة!
بشفتين حمراوين وبثرة تفضح فسقها المحموم. تنظر نحوي فأنكمشُ على نفسي لاعنة: لم يحن ليلُك بعد!
شمسُ الظهيرة تلسعُ قفايَ كحيّة ناريّة. هو الآخرُ لم يُدَنَّس بعد. لم تَطَلْهُ لعنة الإسمنت. لم تزل يدُ صغيرةٍ تظللُ طهره وتعبسُ في وجهِ الشموسٍ المتأججة..
 لم تكن الشمس بريئةً يوماً. كنتُ أعرف ذلك دوماً.

سألفظ المدينة، هنا! الآن!
أتوسطُ الممر المؤدّي إلى أحد المباني الـ بلا أية ملامح. أتوقف. سأتقيأُ المدينة، الآنَ وهنا. وسأخلعُ عني هذا المكسوّ رماداً الآن. كلكم شاهد، وكلكنَّ ستمضين بشفاهكن المزيفة، بالأحمر المقزز، بالعلك المرافق لسوقية أفواهكنّ العطنة..
نوبةٌ سعالٍ حادة توقعني أرضاً. وحشٌ يضغط على كتفيّ، ويلكمني مراراً تحت بنية المدينة التحتية في المنطقة الرمادية من جسدي. أسعلُ بشدة. أسعلُ، أسعل.. فتخرج قطعٌ من الرماد في راحة يدي.. نشوةُ تعتريني فترتجف أطرافي، غير أنها سرعان ما تزول حين أسمع قهقهةً تصدر من جوفي!
"أيتها اللعينة! ظننتُ أنني ألفظك!"

تعينني نملةٌ عابرةٌ على الوقوف. تلتقي أعيننا هنيهةً فأغيبُ في مدينةٍ طينيةٍ لا إسمنت بها. أتنفسُ رائحة الطين ويديّ الطفلتين وخشب باب جدّي العتيق..
أصلحُ من هندامي، أعيدُ نظارتي السوداء على عيني مخفيةً نصف وجهي خلفها، كما أفعلُ كل يوم..

(ليست الهزائم المتكررة مُربكة إلى ذلك الحد) لم يكن الأمرُ سيئاً كم ذكرت، لستُ بحاجة أن ألفظ أي شيء.
 تلك العاهرة تستلقي متكئة على ألمِ صدري، تبتسمُ ابتسامتها الفاسقة ذاتها، وفيما أكمل طريقي نحو المبنى الرماديّ، تطلُّ هيَ من نافذتها المفتوحة عنوةً في صدري على دربي المزدحم بشياطين الشمس وظلال العابرين، وترسمُ طريقي الذي (أذعنتُ) له مذ وقّعتُ تلك الورقة في أحد النهارات المشؤومة تحت شمس ظهيرة تشبه هذه تماماً، غير أنها كانت ترتدي قلنسوة راهبة تصلي، أو هكذا ظننت..
* * *
حبةٌ رمادية مغلّفة بورق القصدير، أقرأُها "رمادول", ترافقها قاروة ماء صنعتها شركة الكولا للمبيدات البشرية.
 لا..
كل شيءٍ جيد.. لا شيء يتآمرُ ضدي، أبداً!

سأقولها صراحةً،

" ششششـــ ....
 لم تكن النوايا دائماً طيبة.
ولم تكن الشمس بريئةً يوماً. كما أنني.. كنتُ أعرفُ ذلك دوماً."



هناك 7 تعليقات:

Unknown يقول...

رائع هذا النص ..

يبذخ بجمال ملائكي ..

دام قلمك عامرا ..

غير معرف يقول...

نص أكثر من رائع ,
أفكاره متسلسلة وسطوره رشيقة ,
بورك قلمك :)

Emtiaz Zourob يقول...

سعيدة بتعرفي على مدونتك وان شاء الله من المتابعين لكل جديد ..

تقبلي خالص تحيتي وتقديري .

دمتي بخير ..

Gardi يقول...

عبير علاو،

أيتها الشذية.. كم أفرحُ كلما سطرتِ تعليقاً هنا وهناك
وأفكرُ كل مرة،
كم أنا محظوطة بقارئة وفية كماكِ..

شكراً ياعبير

Gardi يقول...

nafsitalk

أتشرف بحضورك وهذا الثناء الجميل يعني لي الكثير..

أهلاً بكِ دوماً عزيزتي خلود :)

Gardi يقول...

وجع البنفسج،

أنا الأسعد بوجودكم هنا.

وستسرني عودتك دائماً ياصديقتي :)

ممتنة

daiinjadin يقول...

Casino, sports betting, casino, and poker - Dr. MCD
With a focus 제천 출장샵 on 김포 출장샵 the 동해 출장샵 US, and specifically the European region, the United States and our European casino business 논산 출장마사지 is expected to 평택 출장샵 grow at a phenomenal